16.2.08

في الممنوع 21/12/2005

اليوم ننشر الجزء الثالث والأخير، من الكلمة التي ألقاها الدكتور نصر حامد أبوزيد، في مؤتمر فلسفة الحرية، الذي عقد بكلية آداب القاهرة. وفيه يطرح السؤال: كيف تفكك الفساد؟ وهل هذا ممكن؟


ويجيب: نعم، يمكن تفكيك الفساد بفضحه ونشر غسيله القذر علي الملأ، بلا خوف ولا حسابات ضيقة، الفساد الذي يتجاوز السرقة، سرقة المال العام، والنهب باسم الاستثمار، والفساد الذي يتجاوز المحسوبية ويعلي من شأن القرابة علي حساب الكفاءة.. هذا الفساد الذي يتجاوز أشكاله التقليدية تلك ويصبح قتلا في الطريق العام: شباب ينتحر لأنه لا يجد عملاً، أو لأنه حرم من فرصة العمل بسبب تواضع نسبه، انتخابات تدار بالرشوة والبلطجة وخراب الذمم وتخريبها، قضاة يعتدي عليهم ويداسون بأحذية الأمن لأنهم صدقوا أنهم مسؤولون عن ضمان النزاهة، وأخيراً قتل المثقفين والمعارضين وأصحاب الرأي، لا مكان للعقل ولا مساحة للتفكير الحر، والمجد للمتمجدين المبررين، حملة المباخر ورافعي رايات الإصلاح والتنوير، الذي لا يجب أن يتناقض مع التقاليد أو يخترق أسوار التراث أو يخلخل الثوابت، تلك التي يصوغها المتمجدون أنفسهم ويقفون حراساً وسدنة لها


هؤلاء المتمجدون هم المسؤولون عن «فساد العقل»! لأنهم حولوا العقل عن وظيفته النقدية التي تخترق ظلمات التقاليد والتراث لتؤسس قيم المستقبل من خلال تفاعل خلاق مع الماضي، وحصروا دوره في تبرير الوضع الراهن، وتجميل قبحه، هؤلاء المتمجدون حصروا التعليم في التلقي والتكرار، وحاربوا الإبداع والقفز فوق أسوار التقليد، حين أراد المستبد أن يؤمم العقل هللوا له منذ حاولت الدولة العباسية أن تضم قوة السلطة السياسية إلي قوة الفكر في قبضتها منذ عصر المأمون ففشلت، لكنها نجحت في عصر المتوكل. في العصر الحديث تم في مصر تأميم الأزهر باسم «الإصلاح» في الستينيات، وفي الخمسينيات، كان قد تم تأميم الجامعة باسم التطهير، وكانت تلك بدايات فقدان الاستقلال، في السبعينيات تمت عملية عسكرة الجامعة، وفي التسعينيات تمت عملية تسييس الجامعة باستيلاء «الحزب الوطني» تدريجياً عليها


في الوقت الذي يعلن المسؤولون فيه أنه لا سياسة في الجامعة، بمعني أنه لا يصح قيام فروع للأحزاب السياسية بالجامعة، يقوم حزب واحد، غير شرعي - في تقديري - لأنه ولد في أحضان الإدارة من غير سند قاعدي، بالاستيلاء علي الجامعة من أعلي، وبعملية الاختراق تلك تسلل الاستبداد وتسلل في عباءته الفساد. والمضحك في مصر، وكم ذا بمصر من المضحكات، أن هذا الحزب غير الشرعي يعتبر نفسه مقياس الشرعية فتمتليء أجهزة إعلامه بأبواق تندد بقوي سياسية أخري وتصفها بعدم الشرعية، هي قوي سياسية، قد نختلف معها، لكن حضورها في أرض الواقع أمر لا يمكن إنكاره


في جامعة يسيطر عليها حزب سياسي، أكرر غير شرعي، سلطوي يشرع لها، ويسيطر عليها بجهازه الأمني، هل يمكن الحديث عن «البحث العلمي» فضلاً عن حريته؟ كيف يمكن للخائف أن يمارس حرية ما؟ الأمن يحاصر الجامعة من أبوابها، إلي قرارات تعيين المعيدين وأعضاء هيئة التدريس، فضلاً عن المناصب الإدارية من وكيل الكلية إلي رئيس الجامعة، هناك دائماً التبرير الجاهز: الأمن والخوف من الإرهاب، في مجتمع خائف، وفي مؤسسات هاجسها الأمن، لا يترعرع فكر ويصبح الحديث عن الحرية حديث وهم وخرافة


المشكلة في الاستبداد، وقرينه الفساد، أنه يجد من يروج له من بين ضحاياه، أولئك الذين فسد عقلهم وفسد دينهم واستبدلوا بالمجد المتمجد. لا بديل إلا بفتح الأبواب والنوافذ ليخترق الهواء النقي بؤر الفساد فيتحلل الاستبداد. هذا واجب المثقفين الذين كفوا عن الهتاف وفهموا أن الأوطان لا يمكن أن تحيا بموتنا. إنهم أولئك المهددون بالقتل والتفجير، الذين يجب أن يتكاتفوا ضد الفساد بفضحه في كل صوره، وأن يتصدوا للاستبداد بكل تجلياته مهما صغرت، علينا أن نناضل جميعاً من أجل جامعات مستقلة مفتوحة الأبواب حتي تستعيد الجامعة قدرتها علي التواصل مع المجتمع، ولا تصبح - كما هي الآن - مجرد مدرسة مسورة، نريد «أزهر» مستقلاً يستعيد عافيته التي فقدها في خدمة الأنظمة، الأزهر المستقل كفيل أن يعيد للدين عافيته التي فقدها في أتون السياسة. إن التصدي للاستبداد والفساد المحليين في المجتمعات العربية في الإعلام والتعليم لا يجب أن ينسينا أن الحرب ضد الاستبداد والفساد المحليين جزء من حرب ضد الاستبداد والفساد الكوكبي، الذي يجد في قضيتي الإرهاب والأمن مبرراً له، كذلك علينا أن نتحالف مع القوي المناهضة للفساد في العالم، فالإرهاب ليس في التحليل النهائي سوي فرخ من أفراخ الفساد

من الخطل أن ننسي أسباب المرض وننشغل فقط بمعالجة الأعراض. واسمحوا لي في الختام أن أشكر الجمعية الفلسفية المصرية التي جعلت مفهوم «الحرية» محور مؤتمرها السنوي هذا العام، وفي مؤتمرها السنوي في العام الماضي - والذي كان لي شرف المشاركة فيه كذلك - كان المحور هو المقاومة، من هنا حاولت أن أربط بين المحورين، فالمقاومة هي أعلي مستويات الفعل «الحر»، دون الحرية لا مقاومة، ودون مقاومة الاستبداد والفساد لا «حرية»، من هذا المنبر - منبر المقاومة من أجل الحرية، ومنبر الحرية التي دونها تستحيل المقاومة، اسمحوا لي أن أحيي الأمجاد - وليس المتمجدين - أعضاء «جماعة العمل من أجل استقلال الجامعة: ٩ مارس النشطين في التصدي للفساد داخل الجامعة وخارجها

إنها الحركة التي تنطلق من الدلالة الرمزية ليوم استقالة «أحمد لطفي السيد» رئيس الجامعة احتجاجاً علي قرار نقل «طه حسين» من عمله بالجامعة إلي وزارة المعارف العمومية عام ١٩٣٢. لقد تصدت هذه الجماعة، ولاتزال، لكل قرارات الاستبداد في الجامعات المصرية، وتصدت، ولاتزال، لكل مظاهر الفساد. وفي رأيي أن هذا هو السبيل: التصدي بلا خوف، والمواجهة دون ممالأة

إذا لم يحدث ذلك في الجامعة ويبدأ منها، فلا خلاص للمجتمع، لتعد الجامعة بفضل هذه الجهود وغيرها إلي دورها الرائد في إصلاح المجتمع وتنوير عقله، بدل أن تكون مجرد متلق لأوامر إدارية عسكرية، تفترض في عضو هيئة التدريس أنه جندي في كتيبة عسكرية. إن المفكر - وعنوانه أستاذ الجامعة - حارس قيم لا كلب حراسة.
التعليق غداً

0 comments:

Post a Comment

Thanks For your comment
I won't accept any insult in my blog , please keep it clean .
Please smile,life is difficult enough :) !

"Magical Template" designed by Blogger Buster