9.2.07

مجدى مهنا «قلمٌ» لم يجفّ من العطاء و«ألمٌ» توارى خلف الابتسام

مجدى مهنا «قلمٌ» لم يجفّ من العطاء و«ألمٌ» توارى خلف الابتسام

  كتب   نشوى الحوفى    ٨/ ٢/ ٢٠٠٩
«كان اهتمامى به شديدًا، ورجائى فيه واسعًا، ولكن من سوء الحظ أن المقادير لم تمنح (مجدى) فرصته كاملة، لكن عزيمته، وكفاءته، وشجاعته، أظهرت طاقة قادرة، برغم مهلة قصيرة أتيحت له، كى يكشف عما لديه، ويبرهن عليه»..
هكذا نعى الأستاذ محمد حسنين هيكل، مجدى مهنا عقب إعلان وفاته فى الثامن من فبراير العام الماضى، ليكون رحيل ذلك الكاتب الصحفى، باسم الوجه، هادئ الطباع، حلو السريرة، ومن قبل كل هذا، صغير السن، وكثير الخبرة، إيذانا بفقد قلم شعر القارئ بصدقه، فآمن به، راضياً بالمكوث معه «فى الممنوع»، وحزن لرحيله كما لو كان على صلة وثيقة به.
لا يمل المقربون من مجدى مهنا الحديث عن دماثة خلقه، وحلو عشرته، ونقاء قلبه، تجاه البشر والحياة، مؤكدين أنه الخجول رغم قوله الحق، القنوع رغم قدرته على الأخذ، المثابر رغم المرض، المنطوى رغم الأضواء. هكذا كان مجدى مهنا تراه على سلم نقابة الصحفيين باشاً مرحباً بكل من يلقاه، وتقابله عند مدخل قناة دريم، متواضعاً تحتضن يداه يد من يُسلم عليه بود، حتى لو لم يكن يعرفه، معبراً عن خلق لطالما شكونا افتقاده فى سنواتنا الأخيرة، خاصة لدى من «فتح» الله عليهم من أهل الصحافة والإعلام، فباتوا يشكون ضريبة الشهرة، حتى لو لم يلاحقهم أحد.
ولكن ظل مجدى مهنا ابن قرية سنتماى بمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية على طبيعته النضرة منذ جاء للحياة فى عام ١٩٥٧، والتحق بالعمل فى مجلة روزاليوسف عقب تخرجه فى كلية الإعلام عام ١٩٧٨، ليبدأ فى صناعة اسمه فى عالم الصحافة، بادئاً مشواره الصحفى بحملة موثقة بالمستندات عن الاستيلاء على أراضى الدولة ونهبها.
«قد تظنون أن تحقيقاً صحفياً عن نهب الأراضى موضوع عادى بعد أن وصلت الصحافة أفقاً أوسع من الحرية الآن، ولكنه كان الموضوع شديد الجرأة فى وقتها»، هكذا بدأ الكاتب الصحفى عادل حمودة حديثه، وقال: «التحق مجدى مهنا بروزاليوسف فى فترة ضعيفة صحفياً، وقتها كنت مدير تحرير المجلة، وراجعت بنفسى التحقيق الذى أعده مجدى مهنا، وقد وثقه بجميع المستندات التى تضمن لنا نشره بلا تردد، وحققت الحملة ردود فعل واسعة، بشكل لفت الأنظار لمجدى كقلم صحفى مبشر».
والتحق مجدى مهنا بعد ذلك بالعمل فى جريدة الوفد عام ١٩٨٤، وكان من المعروف عداؤها للناصرية، واليساريين، عكس «روزاليوسف»، وينشر مجدى موضوعاً مع أحد خبراء السموم، يتناول مقتل المشير عبدالحكيم عامر بالسم، وينفى فكرة انتحاره. وتتوالى كتابات مجدى مهنا فى الوفد، التى وجد نفسه صحفياً فيها، فيظل بها سنوات طويلة، حتى تقلد عام ٢٠٠١ منصب رئيس التحرير.
 وجاءت لحظة «فك الارتباط» مع «الوفد» عندما استيقظ قراء الجريدة فى نوفمبر من عام ٢٠٠٢ على خبر إقالة مجدى من منصبه فى صدر صفحتها الأولى، موقعاًً باسم رئيس الحزب وقتها الدكتور نعمان جمعة، يومها قرأ الناس مبررات إقالة مجدى مهنا فى الجريدة، والتى ذكر فيها جمعة أن مجدى مهنا لا يعبر فى مقالاته إلا عن آرائه الشخصية، لا عن موقف الحزب، وأنه انصرف عن ممارسة مهام عمله فى الجريدة، لمتابعة شؤون برنامجه «فى الممنوع» الذى يقدمه على قناة دريم.
 الغريب فى الأمر أن استناد «جمعة» فى إقالة «مهنا» إلى عمله بقناة دريم جاء بعد ما يقرب من ٩ أشهر من بدء عمل مهنا فى القناة، وبثه ما يزيد على ٤٠ حلقة من البرنامج، الذى يحمل نفس عنوان مقاله فى الوفد «فى الممنوع»..
يومها، ورغم الإهانة التى حملها نشر خبر إقالته فى الجريدة بتلك الطريقة، آثر مجدى مهنا عدم الرد على حديث رئيس الوفد، معلناً أنه سيركز جهده فى عمله كصحفى، وعضو مجلس إدارة منتخب فى مؤسسة «روزاليوسف»، إلى جانب عمله فى برنامجه التليفزيونى، منهياً حديثه بالقول: «للدكتور نعمان الحرية فى أى قرار يتخذه»، ليس هذا فقط، بل يصر على رفض المطالبة بأى حقوق مادية له لدى الجريدة، بما فيها مكافأة نهاية الخدمة. رغم عمله بها على مدى عشرين عاماً.
بعد ذلك، جاءت خطوة مجدى مهنا التالية فى «المصرى اليوم»، فى تجربة إصدارها الأولى، التى لم يكتب لها النجاح، رغم الجهود الحثيثة التى بذلت من قبل القائمين عليها، وفى مقدمتهم مجدى مهنا على مدى ١١ شهراً من أجل تحقيق النجاح، ويتركها رافضاً الحصول على أى مقابل مادى، مفضلاً أن يكون له مساحة لمقاله «فى الممنوع» يطل على قرائه عبرها كل يوم، منذ صدورها.
وفى مقاله بالصفحة الأخيرة من «المصرى اليوم» تحدث فى كل شىء دون سقف لما يكتب، ناقداً مواقف المسؤولين، والنظام الحاكم، محافظاً فى الوقت ذاته على مساحة من الود مع الجميع على المستوى الإنسانى، وينشر رسائل قرائه ويعلق عليها.
كان الكاتب الذى ينتقد رموز النظام، ويحتفظ بصداقاتهم واحترامهم واهتمامهم بمتابعة ما يكتب، وكانت عينه على مصر فى المقام الأول والأخير، يبحث عن كل ما يجمل وجهها، ويعيد لها الحياة، يتمسك بكل أمل من الممكن أن يقود البلاد لعصر آخر، مالكاً القدرة على عدم خلط الأوراق ببعضها البعض.
وفى نهاية عام ٢٠٠٤ تبدأ علاقته مع المرض، حينما يكتشف إصابته بفيروس سى، فيرفض أن يكون مرضه مسألة عامة، ويحتفظ بأسرار معاناته لذاته، رافضاً الشكوى لغير الخالق، أو الاعتماد -رغم استطاعته- على الدولة فى نفقات علاجه، ليبيع ما يملكه مما ورثه عن أبيه، ويدبر نفقات العلاج، معرباً عن امتنانه لمن يعرضون المساعدة، متقبلاً قضاء الله بثقة المؤمن فى فضل الرضا، فيمنحه المعين محبة من منحهم الحب فى السابق بلا انتظار لمقابل.
وعبر عن ذلك فى أحد مقالاته بالقول: «أجد نفسى سعيداً، لأن الآخرين يسمحون لى بأن أحبهم، وسعادتى تكون غامرة إذا استطعت تقديم خدمة أو مصلحة لهم، إن الإنسان قد يجد سعادته فى حبه للآخرين دون مصلحة له فى هذا الحب، ودون انتظار أو الحصول على مقابل له، وجاء وقت نفد فيه صبرى من هذا النوع من الحب، لأننى كنت الطرف الذى يحتاج إلى حب الآخرين له، فشعرت به منهمراً كالسيل من شدته، للدرجة التى كنت لا أستطيع الصمود أمامه، فكان يهز كيانى من الداخل، كل ما أستطيع فعله هو البكاء المتواصل الذى لا ينقطع، فما أعطيته من حب قليل، حصلت عليه أضعافاً مضاعفة، مئات وآلاف المرات، من بشر، أغلبهم لا أعرفه».
وتزداد آلام مجدى مهنا، ويزداد معها إصراره على تحملها بمفرده على مدار ما يزيد على ثلاث سنوات بشهور قليلة، ويحاول قدر استطاعته أن يواصل كتابة عموده «فى الممنوع»، رافضاً الخضوع للمرض الذى لم يتركه ليزداد توغله، وتوحشه، ليصبح بحاجة فى عام ٢٠٠٦ ـ كما يقول طبيبه المعالج دكتور محمود المتينى ـ لزراعة كبد وفى أسرع حال، بعد ظهور الورم الخبيث فى الأشعة والتحاليل الخاصة به، ولكن العثور على متبرع استغرق وقتاً طال لثلاثة أشهر، وهو ما زاد الأمر سوءاً، وجعل من زراعة الكبد أمراً لا فائدة منه.
ولكنه يقرر إجراء العملية متحملاً نتائجها، لتنجح عملية الزرع، وتتراجع دلالات الإصابة، ويتجدد الأمل، وفجأة يعود التدهور دون مقدمات، ليبدأ رحلة العلاج الكيماوى، ولكنه لم يقدم له الشفاء. ويضيف الدكتور المتينى: «زادت قسوة الألم والمرض على مجدى، ولكنه كان قوياً، بل أقوى مريض قابلته فى حياتى، كان يملك جرأة، وقوة، وقبلهما إيماناً غير عادى، حتى إنه كان يكتب من داخل العناية المركزة».
ويتوقف القلم عن الاسترسال والكتابة والنقد والبناء ومنح الأمل، ويغيب مجدى مهنا فى غيبوبة، تنتهى بإعلان الغياب الدائم يوم الثامن من فبراير عام ٢٠٠٨، بين مصدق ونافٍ للخبر. ولكنها كلمة الحق، حيث لا تعرف نفس ماذا تكسب غداً ولا تعرف بأى أرض تموت، ولكن هناك نفوساً لا تموت، فتظل باقية، بذكرى طيبة تهف على القلوب كلما ذُكرت سيرتها.
هكذا كان مجدى مهنا الذى شيعت جنازته وسط لفيف قلما يجتمع من المصريين، بدءاً من جمال مبارك، رئيس لجنة السياسات بالحزب الوطنى، مروراً بالوزراء ورموز النظام والإخوان الذين هاجم سياستهم، انتهاءً بمحبيه وأصدقائه، ودَّعه من هاجمهم ومن هادنهم، فكلاهما أدرك أنه يودع صاحب قلم شريف لا غاية له من ورائه.

0 comments:

Post a Comment

Thanks For your comment
I won't accept any insult in my blog , please keep it clean .
Please smile,life is difficult enough :) !

"Magical Template" designed by Blogger Buster